هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

حين تعلّمت الرمال أن تحتفظ بالحياة


لطالما كانت الصحراء في وعي البشر رمزًا للجفاف ؛ فهي أرضًا لا تحتفظ بالماء ولا تمنح الزراعة فرصة حقيقية للحياة. تمسك حفنة من رمالها فتنساب سريعًا من بين أصابعك كما كانت تتلاشي معها محاولات البشر عبر قرون طويلة لاستصلاحها. من هنا بدا الأمر محسومًا: هذه أرض خُلقت لليأس لا للإنتاج.
غير أن العلم لا يعترف بالمسلمات ولا يتوقف طويلًا أمام الحدود القديمة. ففي تجربة علمية لافتة وُلدت فكرة غريبة لكنها واعدة: ماذا لو استطاعت الرمال أن تحتفظ بالماء كما تفعل التربة الخصبة؟ هذا السؤال قاد فريقًا من الباحثين في النرويج إلى تطوير تقنية تُعرف باسم «النانوكلاي السائل» ابتكار فريد من نوعه من شركة نرويجية تُدعى Desert Control. تعتمد التقنية على جسيمات طينية متناهية الصغر تُخلط بالماء وتُرش على الرمال فتغلف حبيباتها وتمنحها قدرة استثنائية على الاحتفاظ بالرطوبة والعناصر الغذائية بدلًا من أن تتسرب سريعًا كما اعتادت على الدوام.
الأمر الأكثر إثارة ليس الفكرة نفسها بل سرعة تأثيرها. ففي التجارب الميدانية بدأت خصائص الرمال بالتغير خلال ساعات قليلة حتى على أعماق تصل إلى 30–60 سم ما يتيح للنباتات امتصاص الماء بكفاءة أكبر ويقلل من استهلاك الموارد المائية بنسبة تصل إلى 50٪ مقارنة بالتربة غير المعالجة. بدأت أولى التجارب بين النرويج ومصر خلال موسم 2012–2014 حيث تم تطبيق النانوكلاي على الأراضي الرملية الزراعية. النتائج كانت مبهرة: نمو أفضل للنباتات تقليل فقد المياه وإنتاجية أعلى حتى مع قسوة البيئة الصحراوية.
اللافت في هذه التقنية ليس مبدؤها فحسب بل انعكاسها العملي السريع على كفاءة الري ونمو النباتات. وقد أظهرت النتائج انخفاضًا ملحوظًا في استهلاك المياه إلى جانب تحسن قدرة التربة الصحراوية على دعم الزراعة.
ولا يعني ذلك الحديث عن حل سحري أو وعد بتحويل الصحارى إلى واحات خضراء بين ليلة وضحاها. فالتقنية شأنها شأن أي ابتكار علمي تظل أداة ضمن منظومة متكاملة تشمل التخطيط الزراعي وإدارة الموارد المائية واختيار المحاصيل الملائمة. لكنها تفتح بابًا جديدًا كان مغلقًا وتعيد تعريف الممكن في بيئات طالما وُصفت بأنها غير قابلة للحياة.
وفي هذا السياق تبرز مصر نموذجًا لبلد يواجه هذه التحديات بشكل مباشر. فمنذ سنوات تمضي الدولة قدمًا في تنفيذ مشروعات تنموية كبرى تستهدف استصلاح الأراضي وتوسيع الرقعة الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي في إطار رؤية شاملة للدولة تستهدف تحقيق التنمية المستدامة، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومع هذه الجهود المتواصلة تبرز التقنيات الزراعية الحديثة مثل «النانوكلاي السائل» كفرص واعدة يمكن استثمارها إلى جانب المشروعات القائمة لا كبديل عنها. فهي قد تسهم في تعظيم كفاءة استخدام المياه وتحسين إنتاجية الأراضي الصحراوية ودعم خطط الدولة لمواجهة تحديات التغير المناخي والضغط المتزايد على الموارد الطبيعية. ورغم إجراء بعض التجارب المحدودة على هذه التقنية في بيئات مشابهة يظل توسيع نطاق الاستفادة منها مجالًا مفتوحًا للدراسة والتطوير.
فالاستفادة من مثل هذه الابتكارات لا تعني القفز فوق الواقع بل البناء عليه؛ وأن تسير التكنولوجيا جنبًا إلى جنب مع التخطيط والإرادة السياسية في سبيل تحقيق تنمية زراعية أكثر كفاءة واستدامة.
إن قصة «النانوكلاي» ليست مجرد خبر علمي بل دعوة لإعادة النظر في علاقتنا بالصحراء. فربما لم تكن المشكلة يومًا في قسوة الطبيعة بقدر ما كانت في حدود أدواتنا لفهمها والتعامل معها. وحين تتلاقى الرؤية مع الابتكار لا تعود الصحراء عائقًا بل تتحول إلى مساحة واعدة تنتظر القرار المناسب.

[email protected]